الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد بالخلق والاختيار قال الله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
والمراد بالاختيار هو: الاجتباء والاصطفاء، وقوله:
مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
أي ليس هذا الاختيار إليهم، فكما أنه المتفرد بالخلق فهو المتفرد بالاختيار منه فإنه أعلم بمواقع اختياره، كما قال تعالى:
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ
وكما قال تعالى:
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ
فأنكر سبحانه عليهم تخييرهم، وأخبر أن ذلك إلى الذي قسم بينهم معيشتهم ورفع بعضهم فوق بعضهم درجات، وقوله:
سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
نزه نفسه عما اقتضاه شركهم من اقتراحهم واختيارهم، ولم يكن شركهم متضمنًا لإثبات خالق سواه حتى ينزه نفسه عنه، والآية مذكورة بعد قوله:
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ
.
وكما أنهم خلقهم اختار منهم هؤلاء، وهذا الاختيار راجع إلى حكمته سبحانه وعلمه بمن هو أهل له، لا إلى اختيار هؤلاء واقتراحهم، وهذا الاختيار في هذا العالم من أعظم آيات ربوبيته، وأكبر شواهد وحدانيته وصفات كماله وصدق رسله، ومن هذا اختياره من الملائكة المصطفين منهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم
.
وكذلك اختياره سبحانه الأنبياء من ولد آدم واختياره الرسل منهم، واختياره أولي العزم منهم، وهم الخمسة المذكورون في سورتي الأحزاب والشورى، واختياره منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهما وسلم وعليهم أجمعين.
ومن هذا اختياره سبحانه ولد إسماعيل من أجناس بني آدم ثم اختار منهم بني كنانة من خزيمة، ثم اختار من ولد كنانة قريشًا، ثم اختار من قريش بني هاشم، ثم اختار من بني هاشم سيد ولد آدم محمدًا صلى الله عليه وسلم.
واختار أمته على سائر الأمم، كما في المسند عن معاوية بن حيدة مرفوعًا: أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله
وفي مسند البزار من حديث أبي الدرداء مرفوعًا إن الله سبحانه قال لعيسى ابن مريم: إني باعث بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم، قال: يا رب كيف هذا ولا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي.
فصل: اختص الله نفسه بالطيب، والمقصود أن الله سبحانه اختار من كل جنس أطيبه فاختصه لنفسه فإنه سبحانه وتعالى طيب لا يحب إلا الطيب، ولا يقبل من القول والعمل والصدقة إلا الطيب، وبهذا يعلم عنوان سعادة العبد وشقاوته، فإن الطيب لا يناسبه إلا الطيب ولا يرضى إلا به، ولا يسكن إلا إليه، ولا يطمئن قلبه إلا به، فله من الكلامِ الكلامُ الطيب الذي لا يصعد إلى الله إلا هو، وهو أشد نفرة عن الفحش في المقال والكذب والغيبة والنميمة والبهت وقول الزور وكل كلام قبيح.
وكذلك لا يألف من الأعمال إلا أطيبها، وهي التي أجمعت على حسنها الفطر السليمة مع الشرائع النبوية، وزكتها العقول الصحيحة، مثل: أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويؤثر مرضاته على هواه، ويتحبب إليه بجهده، ويحسن إلى خلقه ما استطاع؛ فيفعل بهم ما يحب أن يفعلوا به.
وله من الأخلاق أطيبها، كالحلم والوقار والصبر والرحمة والوفاء والصدق وسلامة الصدر والتواضع وصيانة الوجه عن بذله وتذللـه لغير الله، وكذلك لا يختار من المطاعم إلا أطيبها، وهو الحلال الهنيء الذي يغذي البدن والروح أحسن تغذية مع سلامة العبد من تبعته.
وكذلك لا يختار من المناكح إلا أطيبها، ومن الأصحاب إلا الطيبين، فهذا ممن قال الله فيهم: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
ومن الذين تقول لهم خزنة الجنة:
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ
وهذه الفاء تقتضي السببية أي بسبب طيبكم فادخلوها، وقال تعالى:
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
ففسرت بأن الكلمات الخبيثات للخبيثين، والكلمات الطيبات للطيبين، وفسرت بالنساء الطيبات للرجال الطيبين، وبالعكس، وهي تعم ذلك وغيره.
والله سبحانه جعل الطيب بحذافيره في الجنة، وجعل الخبيث بحذافيره في النار، فدار أخلصت للطيب، ودار أخلصت للخبيث، ودار مزج فيها الخبيث بالطيب، وهي هذه الدار، فإذا كان يوم المعاد ميز الله الخبيث من الطيب؛ فعاد الأمر إلى دارين فقط.
والمقصود أن الله جعل للشقاوة والسعادة عنوانًا يعرفان به، وقد يكون في الرجل مادتان فأيهما غلبت عليه كان من أهلها، فإن أراد الله بعبده خيرًا طهره قبل الموافاة؛ فلا يحتاج إلى تطهير بالنار، وحكمته تعالى تأبى أن يجاوره العبد في داره بخبائثه؛ فيدخله النار طهرة له، وإقامة هذا النوع فيها على حسب سرعة زوال الخبائث وبطئها، ولما كان المشرك خبيث الذات لم تطهره النار، كالكلب إذا دخل البحر، ولما كان المؤمن الطيب بريئًا من الخبائث كانت النار حرامًا عليه، إذ ليس فيه ما يقتضي تطهيره، فسبحان من بهرت حكمته العقول.
فصل في وجوب معرفة هدي الرسول صلى الله عليه وسلم .
ومن هاهنا يعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به، فإنه لا سبيل إلى الفلاح إلا على يديه، ولا إلى معرفة الطيب من الخبيث على التفصيل إلا من جهته صلى الله عليه وسلم، فأي حاجة فرضت وضرورة عرضت فضرورة العبد إلى الرسول فوقها بكثير، وما ظنك بمن إن غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبه، ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي، وما لجرح بميت إيلام.
وإذا كانت السعادة معلقة بهديه صلى الله عليه وسلم؛ فيجب على كل من أحب نجاة نفسه أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن خطة الجاهلين، والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.